ما الفرق بين المعرفة والفهم؟ .. المعرفة هي ما قد تتعلمه بعد قراءة مقالتي .. اما الفهم .. حسنا تحتاج فقط الي ان تخوض تجربتي بحذافيرها .. ولن احتاج الي كتابة المزيد.
على سبيل المثال لو اخبرتك ان طبق الملوخية الذي تصنعه زوجتي طيب المذاق فربما تستطيع رسم تصور ما عن طبية مذاقه خصوصا اذا سبق لك ان تناولت الملوخية من قبل .. لكن اذا قلت لك ان مذاقها اطيب من جولة بالسيارة الي الحدود الشمالية لقطاع غزة .. سوف يصبح فهمه اصعب قليلا .. واذا اضفت ان افضل توقيت لجولة بالسيارة في الحدود الشمالية هو في اليوم التالي بعد انتهاء عملية عسكرية اسرائيلية ضد قطاع غزة .. ماذا لو اضفت ان افضل ملوخية هي التي ينتجها مزارعين مدينة رفح جنوب قطاع غزة .. ماذا لو قلت انني اتناول معها قرنين من الفلفل الاخضر ؟ واختارهم قليلين الحرقة لدرجة تكاد تكون معدومة .. لو عصرت زوجتي الليمون في طبق الملوخية لن اتناوله لكني اطلب منها دائما ان تضع نصف ليمونه بجانب الطبق رغم اننا نعرف انني لن امسه!
هل يبدوا كلامي مبهما ؟ هكذا كان الامر بالنسبة لي حينما حاول صديقي ان يشرح لي ان الطريق من قطاع غزة الي مدينة القاهرة قد يستغرق ثمان الي تسع ساعات دون توقف ! ثمان ساعات وعجلات السيارة تدور بأٌقصى سرعة .. هل تتخيل انه يوجد طريق معبد قد تسير عليه لمدة تتعدى الثلاثين دقيقة ولا تصل الي وجهتك؟!
دخلت عامي السابع والثلاثون في ليلة العشرين من اكتوبر 2022 وانا اركب الميكروباص في طريقي من غزة الي القاهرة .. على سبيل المزاح غنى زملائي happy birthday to you وضحكت مجاملة حتى يسكتوا كي اعود الي ما كان يشغل ذهني في اللحظة التي سبقت مقاطعتهم شرودي .. كيف يمكن ان يكون العالم بهذا الحجم الشاسع وانا لا اعرف عنه سوى 365 كم هي مساحة قطاع غزة كاملة . الساعة 12:13 بعد منتصف الليل .. اشعر بحاجة شديدة للنوم لكن النعاس لم يغلبني للحظة .. اردت ان ابقي نظري خارج النافذة .. اردت مشاهدة كل شيء يمكن مشاهدته .. اردت ان اختبر ركوب السيارة لمدة 9 ساعات كاملة .. كنت اعتقد ان الصحراء هي تلك الكثبان الرملية التي اشاهدها في التلفاز .. لم اعلم انها قد تحتوي بعض الشجر او منازل متناثرة هنا وهناك .. ولكن الشيء الوحيد الحقيقي انها بلا نهاية .. منذ ركبنا الميكروباص من المعبر الحدودي بين فلسطين ومصر الساعة الخامسة مساء حتى غابت الشمس .. كان مشهد واحد يتكرر .. طريق .. منازل متناثرة .. والابد .
كنت افكر احيانا ربما يوجد وراء الظلام على جانبي الطريق مدن كبيرة وفجأة اتذكر انني لم اعد في غزة وان الكهرباء لن تنقطع لتخفي وراءها احياء كاملة في عتمة الليل ..
لقد كانوا اثنى عشر يوما مدهشين بحق .. لم اتخيل انني سوف اضحك مثل الاطفال حينما ركبت مترو الانفاق .. لم استطع التخلص من شعوري بالخوف كلما سمعت صوت طائرة رغم ما يتبعها من شعور بالدهشة حينما اطلق نظري الي السماء لأشاهد طائرة مدنية تحلق فوق المدينة مباشرة .. قد تستغرب انني استخدم مصطلح " طائرة مدينة ".. تذكر انني من غزة! .. اعتقد انك فهمت .
اعتادت زوجتي ان تصفني بالعجوز البيتوتي ( المحب للبقاء داخل المنزل ) وانا بالفعل كذلك .. لكن هذا لم يكن انا في مصر .. ذهبت الي هناك وانا متحمس للتدريبات المسرحية التي سوف اتلاقاها .. للمعرفة الجديدة التي سوف اعود بها الي زملائي في غزة . لم اتخيل انني سوف اعود شخصا اخر .. لم اتخيل رحلة قصيرة الي بلد قريب سوف تصنع مني شخصا اخر .. شخص لا يرغب للعودة الي المنزل بعد ثمان ساعات من العمل المرهق .. شخص لم يعد يحبطه الوضع الاقتصادي التعيس في غزة ولا الوضع السياسي المهتز في فلسطين .. حتى انني لم اعد اتابع اخبار الحرب في اوكرانيا كما كنت افعل قبل رحلتي الي مصر.
منذ اليوم التالي لعودتي الي غزة بدأت البحث عن مكان مناسب انشئ فيه الاستديو الخاص بي .. بدأت ادعوا اصدقائي الفنانين ليشاركوني هذا الشغف .. قررت ان افتتح هذا المكان على نفقتي الخاصة . في وسط القاهرة كنا ننهي تدريبنا في السادسة مساء لنبدأ التجول حول المدينة بحث عما نشاهده .. عن مقابلة فنانين .. عن الحديث عن الفن عن اختلاف الثقافة . من العجيب كيف يمكن للبشر ان يؤثروا على البشر بهذا الشكل .. اذا جالست صديقا في غزة يمكن ان تحدثه عن اي شيء .. لكن الحديث لن ينتهي الي بكلمات الحسرة على الوضع المعيشي .. عن المشاريع المتوقفة .. عن الرغبات المكبوحة .. عن الاحلام الذابلة .. في غزة اذا اخبرت صديقا عن مأساة ما في حياتك سوف تدخل مباشرة في سباق الأحزان .. غالبا .. لن يواسيك .. والاكيد انه لن يقترح عليك حلا ما .. لكن المؤكد انه سوف يثبت لك ان مأساتك اقل شدة من مأساته وبهذا تعود الي المنزل سعيدا لأنك لست اتعس شخص في العالم .. وسوف تفعل العكس اذا حاول شخص ان يشكوا لك مشكلة ما .. حيث انك اذا كنت مصابا بالتفاؤل فلن يتقبل احد افكارك . . بمعنى .. انت لا تستطيع ان تكون شخص ايجابي في غزة .. مبدئيا ليس هناك اي حلول يمكنك اقتراحها .. واذا ما حاولت ان تكون متفائلا فلن يأخذك احد على محمل الجد هذا ان لم تحصل على توبيخ ما كونك شخص غير واقعي او متعالي ويحاول ان يكون فيلسوفا.
لم اتلقى هذا الكم من المقترحات والافكار الايجابية في حياتي كلها .. في كل ليلة في كل جلسة خلال اي حوار .. كان الناس يقترحون علي ان اتقدم بمشاريع مختلفة ان انشئ شراكات معهم .. ان اقوم بعرض مسرحياتي خارج غزة .. حتى اللحظة لا اعلم اذا كانت مقترحاتهم واقعية .. لكنني لم اشعر بأي رغبة في ان اخبرهم ان هذا امر صعب وذاك مستبعد وانتم لا تعرفون عن الواقع شيء .. على العكس تماما .. اخذت كل تلك الافكار على محمل الجد واخذت على نفسي عهدا انني سوف اعود بعد اقل من 12 شهر.
عشت في غزة 36 عام نصفهم تحت الحصار .. كنت احاول ان اصف هذا لأصدقائي من خارج غزة .. كنت احاول تصويره في مسرحياتي .. ولم اشعر في اي مرة انني اقنعت احد في مدى صعوبة الحياة في غزة . . ربما انا لم اجدها صعبة بالأساس .. لطالما كانت عائلتي فقيرة اذا لن يضرني المزيد من الفقر .. لم اكن شخص كثير السفر لم يؤذني كثيرا منع السفر . . لا اعرف طعم الشوكولا السويسرية لا ارتدي الماركات العالمية لا يملك والدي اي مصانع لم تحتاج والدتي للعلاج في مستشفى خارجي لم يكبر اولادي بما يكفي ليتطلعوا للدراسة في المانيا .. فكيف لي ان اصف حصارا لا اشعر بثقله .. فأنا دائما اقول انني احب غزة ولا اتمنى الخروج منها الا في اوقات الحروب وفي لحظات القصف . . ولكني واخيرا استطعت ان افهم ما هو حصار غزة ..
حدث ذلك حينما كنت اجلس في المقهى مع اشخاص من جنسيات مختلفة رغم ان معظمهم مصريين .. كان الجميع يتبادلون اطراف الحديث والضحك بأصوات مرتفعة .. كانت المجموعة مكونة من 23 شخصا .. اجل لقد امتلكت الوقت الكافي للقيام بالعد . لم يكن لدي شيء افعله .. كان الجميع حولي منهمكين في الحديث عن حياتهم وتجاربهم .. لقد امتلك معظمهم الكثير من المغامرات ليتحدث عنها .. نظرت الي صديقي الغزاويين في الطرف الاخر من الطاولة .. كانوا يتحدثون لبعضهم البعض .. نحن نجلس مع مجموعة مثيرة من الفنانين والممثلين والراقصين المصرين والبريطانيين والفرنسيين والكنديين .. بينما صديقاي الغزاويين الصقا رؤوسهم وانهمكوا في حديث جانبي .. راقبتهم لفترة قصيرة قبل ان ينتبه احدهم الي .. ومباشرة اجرى مسح سريع في عينيه على المجموعة ثم اعاد نظره الي وابتسم .. هو فهم وانا فهمت وثالثنا انتبه ونظر ومسح وابتسم .. ولا احد غيرنا فهم .. إن حصار غزة ليس اغلاقا للحدود ومنع للسفر والصيد والاستيراد والتصدير والعمل والعلاج والتنفس .. انه اكثر من ذلك .. انه عزل . . غزة معزولة عن العالم .. سمع بها الكثير وشاهدها القليل .. الجميع هنا قابلوا اشخاص من جنسيات مختلفة من قبل .. لكن لم يقابل احد منهم غزاويا من قبل . كانوا يتحمسوا مجرد ان يتعرفوا الينا .. ثم تذهب حماستهم بعد ان يخطئوا ويسألونا عن احوال غزة .. لا احد يريد سماع المآسي .. لا يحب احد الانغماس في تلك السوداوية .. العالم لا يحب التراجيديا الغزاوية رغم تعاطفهم معها . وهكذا جلست وحيدا بين ثلاثة وعشرين شخصا . لا املك ما يمكنني ان الحديث عنه دون ان اثير استياء الجميع دون ان اجعلهم ينتظرون سكوتي لتعود البهجة .
غزة محاصرة .. غزة معزولة .. غزة هي تلك الفتاة من رواية Room للكاتبة إيما دونوغيو وحينما خرجت الي مصر .. شعرت وكأنني جاك ذو الخمس اعوام.
لكن على عكس ما يحدث لمعظم الاشخاص الذين عادوا الي غزة بعد سفر لبضعة اسابيع .. انا عدت الي غزة احمل نجوما من التفاؤل والطاقة الايجابية .. 6 ايام من التدريبات في المسرح الجسدي كانت ملهمة بما يكفي لأعود الي غزة كمن عاد من زيارة الي المريخ يحمل عينات التربة لا استطيع الانتظار حتى ابدأ ابحاثي وتجاربي.
حينما بدأت اشاهد عروض مهرجان D-CAF شعرت بالمتعة والاحباط والدهشة في آن معا .. شعرت بالمتعة لجمال العروض .. شعرت بالإحباط لمدى الجودة التي تم صناعة العروض فيها . وشعرت بالدهشة لمدى الالهام الذي يمكن ان تحصل عليه بعد مشاهدة كل عرض فني من فنانين أتو من ثقافة مختلفة ويروون قصص وصور وافكار مختلفة .
والان انا اجمع فريقي من جديد وبدأت بإنشاء الاستديو الخاص بي .. وسوف ابدا بمحاولة الحصول على التسجيل القانوني الخاص بفريقي .. وسوف اعود الي خارج غزة حاملا قصة من قصص غزة بطريقة لن تجعل الحضور ينتظرون سكوتي.